بعد أن صارت عادة شبه مهجورة، استعادت التكيّة السودانية ألقها القديم لتعود بقوة لتصدر مشاهد التكافل الاجتماعي تزامناً مع الحرب الشرسة في البلاد.
فمن المعروف أن التكية السودانية كانت واحدة من أقوى مظاهر الترابط الاجتماعي في السودان، حيث ارتبطت التكايا عامة بالمرجعيات الدينية وشيوخ تحفيظ القرآن وتجويده.
وبعد اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الخرطوم ودارفور منتصف أبريل/نيسان الماضي، عادت التكية لعملها بمساعدة المحتاجين، وبدأت تُقدم وجبات الطعام اليومية للعائلات الأشد فقراً، وذلك من أجل سد رمقهم في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد مع فقدان الغالبية العظمى لمصادر دخلهم.
كما تحوّلت مراكز إيواء المواطنين بالعاصمة والولايات المتضررة بالحرب إلى جمعيات أخرى موازية لتوفير الطعام ومساعدة مئات الآلاف دون مقابل.
من أين جاء اسم التكيّة؟
يرجع لفظ “التكيّة” إلى الاتكاء والإسناد والراحة من مشاق السفر والترحال، حتى ارتبط مفهومها لدى الناس بدخول كل فقير وغريب ومُضطر إليها ليجد فيها راحته وطعامه ومنامه بيسر وسهولة ودون مقابل.
وتتألف التكيّة ذات الطراز العثماني من حرم للصلاة، وباحة واسعة للتأدية، كما تحيط بها أروقة وغرف للمريدين وأخرى لتحضير الطعام، وفي جنباتها هناك مقامات وأضرحة لأبرز شيوخها.
أما التكيّة قديماً فكانت تقسم إلى مطبخ وصالة لتقديم الطعام ومكان لمبيت الحجاج وطلاب العلم ومدرسة لتعلم العلوم الشرعية، بينما أصبحت الآن مكانا لتوزيع الطعام فقط.
أشهر التكايا بالسُّودان
تتنتشر تكايا عديدة في البلاد، إلّا أنّ تكيتي الزعيمين الدينيين، مرشد السجادة الختمية علي الميرغني بالخرطوم بحري، والإمام عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار بأم درمان، تعتبران أشهر التكايا بالسُّودان.
وبالرغم من شهرتهما الواسعة، إلا أن تلك التكيتان لم تكونا الوحيدتين بالسودان، فقد انتشرت التكايا وازدهرت وسط تجمُّعات السودانيين بالمدن والقرى، وظلت لزمان طويل أهم المعالم والمدارس الدينية، بجانب توفير الطعام والشراب والمأوى لكل الناس دون مقابل.
وهناك تكايا شهيرة بمنطقة أم ضوبان بالخرطوم ومناطق الشكينيبة بالمناقل وطابت الشيخ عبد المحمود بولاية الجزيرة بوسط السودان ومنطقة الزريبة بكردفان غرب البلاد.
موروثٌ عثماني؟!
يشار إلى أن الباحثين يصنفون التكايا على أنها موروث تاريخي يعود لزمن العثمانيين، إلّا أنّ التكية السودانية ظلت عادة متوارثة وثقافة متجذرة منذ أزمان طويلة، خاصةً وسط المجموعات السكانية القديمة وإن اختلفت أشكالها ووظائفها، لكنها ظلت بشكل عام ملجأً للفقراء والمحتاجين، وملاذاً للمسافرين والمقطوعين وعابري السبيل لقرون خالية وعقود طويلة في أماكن شتى بالسودان.
ففي شمال السودان مثالاً، كانت الغالبية العُظمى من المواطنين إن لم يكونوا كلهم يحرصون على تشييد مضيفة خارجية بالطوب الأخضر (اللبن) بسور منازلهم تُسمّى (السبيل).
أما ربات المنازل فيحرصن دائماً على ملء الأقداح بالطعام ووضعه في مكان مرتفع وظاهر للعيان داخل السبيل، أما مياه الشرب فتحفظ في أوعية فخارية كبيرة تسمى “الأزيار”.
كما أن عادة السبيل جعلت إطعام الجوعى هبة لعابري السبيل سواء بالنهار أو الليل دون الحاجة لاستئذان أصحاب البيوت أو طرق الأبواب.