كانت نورما تهم للخروج من شقتها في بيروت حين اصطدمت فجأة بغيمة من الغبار امامها ليتبين أنها ناتجة عن سقوط جزء من مبنى أثري مجاور عصف به انفجار المرفأ قبل أن تأتي عليه الأمطار الغزيرة.
وتقول نورما منسخ، في الخمسينات من عمرها، “ولدنا هنا، ونشأنا هنا، الحي كله بمثابة بيتنا، نعرف كل زاوية منه (…) وها نحن نخسر مشاهد ولدنا ونشأنا معها”.
وتضيف “كان يجب تدعيم المبنى بشكل أفضل، هذا كله نتيجة اهمال الدولة، اهمال في كل شيء”.
و”رميل 24″ واحد من مباني بيروت الأثرية الكثيرة التي تعود إلى الحقبة العثمانية. ومع أنه مهجور منذ أكثر من أربعين 40 عاما، كان الطابق الأرضي منه يضم أحد أشهر محلات بيع البوظة، متجر حنا متري، الذي كان مقصدا رئيسيا للسياح ولسكان بيروت، قبل أن ينهار سقفه بالكامل جراء انفجار المرفأ، ما اضطره إلى تغيير موقعه.
وعلى غرار عدد من الأبنية الأخرى، لم يصمد “رميل 24” أيضاً أمام بدء الأمطار، التي هطلت بغزارة طوال أسبوع في بيروت.
وتسبب انفجار المرفأ المروع في الرابع من آب/اغسطس بمقتل أكثر من مئتي شخص وإصابة أكثر من 6500 بجروح. كما تسبب بأضرار في نحو سبعين ألف وحدة سكنية، وأتى على تاريخ عريق حافظت عليه أبنية تراثية بجدرانها المزخرفة ونوافذها الملونة وقناطرها العالية قبل أن تتحول مجرد واجهات تخترقها فجوات ضخمة.
وبات تسعون مبنى أثرياً مهدداً بالانهيار اليوم مع بدء موسم الأمطار، وفق ما يقول وزير الثقافة في حكومة تصريف الاعمال عباس مرتضى لوكالة فرانس برس.
– “تراثنا وإرثنا” –
تقول كارلا (52 عاماً)، التي نشأت أيضاً بالقرب من مبنى “رميل 24″، “نخسر الكثير في لبنان، نعيش صدمة جديدة كل شهر”. وتضيف “هذا تراثنا وإرثنا (…) من المؤسف أن يذهب بهذه الطريقة”.
وتشرح المهندسة ياسمين معكرون، المتطوعة في جهود الترميم التي تقوم بها جمعية تشجيع حماية المواقع الطبيعية والأبنية القديمة في لبنان، أن مياه الامطار ضاعفت الثقوب في سقف المبنى ما أدى إلى “إنهياره جزئياً”.
وتوضح أنه كان من الممكن إنقاذه لو لم يتأخر صاحب الأرض في السماح لعمال الترميم بالوصول إليه، مشيرة إلى أنه كان بإمكانهم تدعيم المبنى خلال عشرة أيام قبل بدء هطول الأمطار. وتقول “كان بإمكاننا أن نبدأ بالمرحلة الأولى (…) وأن ننقذه ولو جزئياً”.
ويعتمد لبنان الذي يشهد انهياراً اقتصادياً متسارعاً فاقمه انفجار المرفأ، على المساعدات الخارجية لاعادة اعمار وترميم الأحياء المتضررة. إلا أن المجتمع الدولي، الذي تعهد مباشرة بعد الانفجار بتقديم أكثر من 250 مليون يورو، أصر على الا تمر المساعدات بمؤسسات الدولة المتهمة بالفساد بل برعاية الأمم المتحدة وبشكل مباشر للشعب اللبناني.
ويقول مرتضى إن “المنظمات الدولية لا تهتم بالشكل المطلوب” في مسألة المباني الأثرية. ويضيف “هناك عجز في الإمكانيات لدى الوزارة” وخصوصاً من ناحية الطاقم التقني والهندسي.
وكان المدير العام للآثار سركيس خوري قدّر ب300 مليون دولار حاجة لبنان لترميم تراث بيروت.
– ليس لنا سوى الله –
في حي الجميزة المجاور، تمر شاحنات مليئة بألواح الألمينيوم في شارع غيّر الانفجار ملامحه. وبات عدد عمال البناء والترميم يفوق عدد المارة الذين يسرعون الخطى أثناء مرورهم إلى جانب الأبنية خوفاً من انهيار جدار هنا او سقف هناك.
ينهمك العمال في إزالة أنقاض مبنى أثري ظنّ فريق اغاثي من تشيلي في أيلول/سبتمبر أنه رصد تحت أنقاضه نبضات قلب قبل أن يخيب أمله لاحقاً.
على بعد بضعة كيلومترات، تبدو منطقة الكرنتينا المحاذية للمرفأ الأكثر عرضة للخطر. وقد تسببت الأمطار الأربعاء بانهيار مبنى شكّل الضحية الأولى لموسم العواصف.
وفيما كان العمال ومتطوعو احدى منظمات الاغاثة يرفعون حجارته المتساقطة على الشارع، انهمك آخرون في تدعيم جدار مبنى آخر على الجهة المقابلة.
سورت أشرطة حمراء وصفراء اللون أبنية كثيرة، وإلى جانبها وُضعت لافتات تحذر المواطنين من الدخول او الاقتراب منها.
وتعد الكرنتينا من أفقر أحياء بيروت، وقد اتخذ عمال سوريون وأجانب كثر منها منزلاً لهم، وزاد الانفجار من معاناة قاطنيها نظراً لموقعها المحاذي للمرفأ.
يمعن أحد السوريين النظر في مبنى حديث لم يشفع به الانفجار، تدمع عيناه فلم يكف أنه كان شاهداً على الكارثة بل أنه لا يزال يعيش تداعياتها.
ويقول “لا يمكننا أن نقول شيئاً.. ليس لنا سوى الله”.
France 24